فصل: تفسير الآيات (32- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وتطلع الذين آمنوا إلى تنزيل سورة: إما أن يكون مجرد تعبير عن شوقهم إلى سورة جديدة من هذا القرآن الذي يحبونه، ويجدون في كل سورة منه زاداً جديداً حبيباً.
وإما أن يكون تطلعاً إلى سورة تبين أمراً من أمور الجهاد، وتفصل في قضية من قضايا القتال تشغل بالهم. فيقولون: {لولا نزلت سورة}..
{فإذا أنزلت سورة محكمة}.. فاصلة بينة لا تحتمل تأويلاً {وذكر فيها القتال}.. أي الأمر به. أو بيان حكم المتخلفين عنه، أو أي شأن من شؤونه، إذا بأولئك {الذين في قلوبهم مرض}.. وهو وصف من أوصاف المنافقين.. يفقدون تماسكهم، ويسقط عنهم ستار الرياء الذين يتسترون به، وينكشف جزعهم وضعف نفوسهم من مواجهة هذا التكليف، ويبدون في حالة تزري بالرجال، يصورها التعبير القرآني المبدع صورة فريدة كأنها معروضة للأنظار:
{رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت}..
وهو تعبير لا تمكن محاكاته، ولا ترجمته إلى أي عبارة أخرى. وهو يرسم الخوف إلى حد الهلع. والضعف إلى حد الرعشة. والتخاذل إلى حد الغشية! ويبقى بعد ذلك متفرداً حافلاً بالظلال والحركة التي تشغف الخيال! وهي صورة خالدة لكل نفس خوارة لا تعتصم بإيمان، ولا بفطرة صادقة، ولا بحياء تتجمل به أمام الخطر. وهي هي طبيعة المرض والنفاق!
وبينما هم في هذا التخاذل والتهافت والانهيار تمتد إليهم يد الإيمان بالزاد الذي يقوي العزائم ويشد القوائم لو تناولوه في إخلاص:
{فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم}.
نعم. أولى لهم من هذه الفضيحة. ومن هذا الخور. ومن هذا الهلع. ومن هذا النفاق.. أولى لهم {طاعة وقول معروف}.. طاعة تستسلم لأمر الله عن طمأنينة، وتنهض بأمره عن ثقة. وقول معروف يشي بنظافة الحس واستقامة القلب، وطهارة الضمير. وأولى لهم إذا عزم الأمر، وجد الجد، وواجهوا الجهاد أن يصدقوا الله. يصدقوه عزيمة، ويصدقوه شعوراً. فيربط على قلوبهم، ويشد من عزائمهم، ويثبت أقدامهم، وييسر المشقة عليهم، ويهون الخطر الذي يتمثلونه غولاً تفغر فاها لتلتهمهم! ويكتب لهم إحدى الحسنيين: النجاة والنصر، أو الاستشهاد والجنة.. هذا هو الأولى. وهذا هو الزاد الذي يقدمه الإيمان فيقوي العزائم ويشد القوائم، ويذهب بالفزع، ويحل محله الثبات والإطمئنان.
وبينما هو يتحدث عنهم يلتفت إليهم مباشرة ليخاطبهم مقرعاً مهدداً بسوء العاقبة لو قادهم حالهم هذا إلى النكسة والتولي إلى الكفر؛ وخلع ذلك الستار الرقيق من الإسلام:
{فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم}..
وهذا التعبير.. {هل عسيتم}.. يفيد ما هو متوقع من حال المخاطبين. ويلوح لهم بالنذير والتحذير.. احذروا فإنكم منتهون إلى أن تعودوا إلى الجاهلية التي كنتم فيها. تفسدون في الأرض وتقطعون الأرحام، كما كان شأنكم قبل الإسلام..
وبعد هذه اللفتة المفزعة المنذرة لهم يعود إلى الحديث عنهم لو انتهوا إلى هذا الذي حذرهم إياه:
{أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم.
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}.
أولئك الذين يظلون في مرضهم ونفاقهم حتى يتولوا عن هذا الأمر الذي دخلوا فيه بظاهرهم ولم يصدقوا الله فيه، ولم يستيقنوه. {أولئك الذين لعنهم الله}.. وطردهم وحجبهم عن الهدى، {فأصمهم وأعمى أبصارهم}.. وهم لم يفقدوا السمع، ولم يفقدوا البصر؛ ولكنهم عطلوا السمع وعطلوا البصر، أو عطلوا قوة الإدراك وراء السمع والبصر؛ فلم يعد لهذه الحواس وظيفة لأنها لم تعد تؤدي هذه الوظيفة.
ويتساءل في استنكار: {أفلا يتدبرون القرآن}.. وتدبر القرآن يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب النور، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير. وينشئ حياة للروح تنبض بها وتشرق وتستنير، {أم على قلوب أقفالها} فهي تحول بينها وبين القرآن وبينها وبين النور؟ فإن استغلاق قلوبهم كاستغلاق الأقفال التي لا تسمح بالهواء والنور!
ويمضي في تصوير حال المنافقين، وسبب توليهم عن الإيمان بعد إذ شارفوه، فيتبين أنه تآمرهم مع اليهود، ووعدهم لهم بالطاعة فيما يدبرون:
{إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم}..
والتعبير يرسم معنى رجوعهم عن الهدى بعد ما تبين لهم، في صورة حركة حسية، حركة الارتداد على الأدبار. ويكشف ما وراءها من وسوسة الشيطان وتزيينه وإغرائه. فإذا ظاهر هذه الحركة وباطنها مكشوفان مفهومان! وهم المنافقون الذين يتخفون ويتسترون! ثم يذكر السبب الذي جعل للشيطان عليهم هذا السلطان، وانتهى بهم إلى الارتداد على الأدبار بعد ما عرفوا الهدى وتبينوه:
{ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر}..
واليهود في المدينة هم أول من كرهوا ما نزَّل الله؛ لأنهم كانوا يتوقعون أن تكون الرسالة الأخيرة فيهم، وأن يكون خاتم الرسل منهم؛ وكانوا يستفتحون على الذين كفروا ويوعدونهم ظهور النبي الذي يقودهم ويمكن لهم في الأرض، ويسترجع ملكهم وسلطانهم. فلما اختار الله آخر رسله من نسل إبراهيم، من غير يهود، كرهوا رسالته. حتى إذا هاجر إلى المدينة كرهوا هجرته، التي هددت ما بقي لهم من مركز هناك. ومن ثم كانوا إلباً عليه منذ أول يوم، وشنوا عليه حرب الدس والمكر والكيد، حينما عجزوا عن مناصبته العداء جهرة في ميادين القتال؛ وانضم إليهم كل حانق، وكل منافق، وظلت الحرب سجالاً بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجلاهم في آخر الأمر عن الجزيرة كلها وخلصها للإسلام.
وهؤلاء الذين ارتدوا على أدبارهم من بعدما تبين لهم قالوا لليهود: {سنطيعكم في بعض الأمر}.. والأرجح أن ذلك كان في الدس والكيد والتآمر على الإسلام ورسول الإسلام.
{والله يعلم إسرارهم}.
وهو تعقيب كله تهديد. فأين يذهب تآمرهم وإسرارهم وماذا يؤثر؛ وهو مكشوف لعلم الله؟ معرض لقوة الله؟
ثم التهديد السافر بجند الله، والمتآمرون في نهاية الحياة:
{فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم}!
وهو مشهد مفزع مهين. وهم يحتضرون. ولا حول لهم ولا قوة. وهم في نهاية حياتهم على هذه الأرض. وفي مستهل حياتهم الأخرى. هذه الحياة التي تفتتح بضرب الوجوه والأدبار. في لحظة الوفاة، لحظة الضيق والكرب والمخافة. والأدبار التي ارتدوا عليها من بعدما تبين لهم الهدى! فيالها من مأساة!
{ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم}..
فهم الذين أرادوا لأنفسهم هذا المصير واختاروه. هم الذين عمدوا إلى ما أسخط الله من نفاق ومعصية وتآمر مع أعداء الله وأعداء دينه ورسوله فاتبعوه. وهم الذين كرهوا رضوان الله فلم يعملوا له، بل عملوا ما يسخط الله ويغضبه.. {فأحبط أعمالهم}.. التي كانوا يعجبون بها ويتعاجبون؛ ويحسبونها مهارة وبراعة وهم يتآمرون على المؤمنين ويكيدون. فإذا بهذه الأعمال تتضخم وتنتفخ. ثم تهلك وتضيع!
وفي نهاية الشوط يتهددهم بكشف أمرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، الذين يعيشون بينهم متخفين؛ يتظاهرون بالإسلام وهم لهم كائدون:
{أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}..
ولقد كان المنافقون يعتمدون على إتقانهم فن النفاق، وعلى خفاء أمرهم في الغالب على المسلمين. فالقرآن يسفه ظنهم أن هذا الأمر سيظل خافياً، ويهدّدهم بكشف حالهم وإظهار أضغانهم وأحقادهم على المسلمين. ويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم}.. أي لو نشاء لكشفنا لك عنهم بذواتهم وأشخاصهم، حتى لترى أحدهم فتعرفه من ملامحه (وكان هذا قبل أن يكشف الله له عن نفر منهم بأسمائهم) ومع ذلك فإن لهجتهم ونبرات صوتهم، وإمالتهم للقول عن استقامته، وانحراف منطقهم في خطابك سيدلك على نفاقهم: {ولتعرفنهم في لحن القول}..
ويعرج على علم الله الشامل بالأعمال وبواعثها: {والله يعلم أعمالكم}.. فلا تخفى عليه منها خافية.. ثم وعد من الله بالابتلاء.. ابتلاء الأمة الإسلامية كلها، لينكشف المجاهدون والصابرون ويتميزوا وتصبح أخبارهم معروفة، ولا يقع الالتباس في الصفوف، ولا يبقى مجال لخفاء أمر المنافقين ولا أمر الضعاف والجزعين:
{ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}..
والله يعلم حقائق النفوس ومعادنها، ويطلع على خفاياها وخباياها، ويعلم ما يكون من أمرها علمه بما هو كائن فعلاً. فما هذا الابتلاء؟ ولمن يكون العلم من ورائه بما يتكشف عنه؟
إن الله- جلت حكمته- يأخذ البشر بما هو في طوقهم، وما هو من طبيعتهم واستعدادهم.

.تفسير الآيات (32- 38):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)}
الحديث في الشطر الأول من هذا الشوط الأخير من السورة عن {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى}.. وهؤلاء، الأقرب أن يكونوا هم المشركين الذين كان الحديث عنهم في أول السورة. فهم الذين ينطبق عليهم التبجح في الوقوف للدعوة الإسلامية. التبجح الذي يعبر عنه بالصد عن سبيل الله ومشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان هناك احتمال آخر، وهو أن يكون الحديث عاماً لكل من يقف هذا الموقف؛ يشمل اليهود في المدينة ويشمل المنافقين، على سبيل التهديد لهم إذا هموا أن يقفوا مثل هذا الموقف جهراً أو سراً. ولكن الاحتمال الأول أقرب على كل حال.
أما الحديث في الشطر الثاني والأخير حتى ختام السورة فهو خطاب للمؤمنين، يدعوهم إلى مواصلة الجهاد بالنفس وبالمال، دون تراخ أو دعوة إلى مهادنة الكفر المعتدي الظالم، تحت أي مؤثر من ضعف أو مراعاة قرابة أو رعاية مصلحة. ودون بخل بالمال الذي لا يكلفهم الله أن ينفقوا منه إلا في حدود مستطاعة، مراعياً الشح الفطري في النفوس! وإن لا ينهضوا بتكاليف هذه الدعوة فإن الله يحرمهم كرامة حملها والانتداب لها، ويستبدل بهم قوماً غيرهم ينهضون بتكاليفها، ويعرفون قدرها. وهو تهديد عنيف مخيف يناسب جو السورة، كما يشي بأنه كان علاجاً لحالات نفسية قائمة في صفوف المسلمين إذ ذاك- من غير المنافقين- وذلك إلى جانب حالات التفاني والتجرد والشجاعة والفداء التي اشتهرت بها الروايات. فقد كان في الجماعة المسلمة هؤلاء وهؤلاء. وكان القرآن يعالج ويربي لينهض بالمتخلفين إلى المستوى العالي الكريم..
{إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم}..
إنه قرار من الله مؤكد، ووعد منه واقع: أن الذين كفروا، ووقفوا في وجه الحق أن يبلغ إلى الناس؛ وصدوا الناس عنه بالقوة أو المال أو الخداع أو أية وسيلة من الوسائل، وشاقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته بإعلان الحرب عليه، والمخالفة عن طريقه، والوقوف في غير صفه. أو بعد وفاته بمحاربة دينه وشريعته ومنهجه والمتبعين لسنته والقائمين على دعوته. وذلك {من بعد ما تبين لهم الهدى}.. وعرفوا أنه الحق؛ ولكنهم اتبعوا الهوى، وجمح بهم العناد، وأعماهم الغرض، وقادتهم المصلحة العاجلة..
قرار من الله مؤكد، ووعد من الله واقع أن هؤلاء {لن يضروا الله شيئاً}.. وهم أضأل وأضعف من أن يذكروا في مجال إلحاق ضرر بالله سبحانه وتعالى. فليس هذا هو المقصود. إنما المقصود أنهم لن يضروا دين الله ولا منهجه ولا القائمين على دعوته.
ولن يحدثوا حدثاً في نواميسه وسننه. مهما بلغ من قوتهم، ومهما قدروا على إيذاء بعض المسلمين فترة من الوقت. فإن هذا بلاء وقتي يقع بإذن الله لحكمة يريدها؛ وليست ضراً حقيقياً لناموس الله وسنته ونظامه ونهجه وعباده القائمين على نظامه ونهجه. والعاقبة مقررة: {وسيحبط أعمالهم}.. فتنتهي إلى الخيبة والدمار. كما تنتهي الماشية التي ترعى ذلك النبات السام!
وفي ظل هذا المصير المخيف للذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول.. يلتفت إلى الذين آمنوا ليحذرهم ظل هذا المصير، ويوجههم إلى طاعة الله وطاعة الرسول:
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم}..
وهذا التوجيه يوحي بأنه كان في الجماعة المسلمة يومئذ من لا يتحرى الطاعة الكاملة؛ أو من تثقل عليه بعض التكاليف، وتشق عليه بعض التضحيات، التي يقتضيها جهاد هذه الطوائف القوية المختلفة التي تقف للإسلام، وتناوشه من كل جانب؛ والتي تربطها بالمسلمين مصالح ووشائج قربى يصعب فصمها والتخلي عنها نهائياً كما تقتضي العقيدة ذلك.
ولقد كان وقع هذا التوجيه عنيفاً عميقاً في نفوس المسلمين الصادقين، فارتعشت له قلوبهم، وخافوا أن يقع منهم ما يبطل أعمالهم، ويذهب بحسناتهم..
قال الإمام أحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة: حدثنا أبو قدامة، حدثنا وكيع، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، فنزلت: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم}.. فخافوا أن يبطل الذنب العمل.
وروي من طريق عبد الله بن المبارك، أخبرني بكر بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول، حتى نزلت {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم}.. فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات والفواحش. حتى نزل قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك. فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش ونرجو لمن لم يصبها.